الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: أبجد العلوم **
ويقال: علم المواعظ، وهو علم يعرف به ما هو سبب الإنزجار عن المنهيات، والانزعاج إلى المأمورات من الأمور الخطابية المناسبة لطباع عامة الناس. ومباديه الأحاديث المروية عن سيد المرسلين، وحكايات العباد، والزهاد، والصالحين، وكذا حكايات الأشرار المبتلين بالبليات بسوء أعمالهم، وفساد أحوالهم ذكره في ((مدينة العلوم)). قال ابن الجوزي في ((المنتخب)): لما كانت المواعظ مندوبا إليها بقوله عز وجل: ومن تأمل مواعظ الحسين بن علي رضي الله عنهما، وغيره علم ما أشرت إليه وكذلك كان الفقهاء في قديم الزمان يتناظرون من غير مفاوضة في تسمية قياس علة، أو قياس شبه، وأرجو أن يكون ما أخذته من الألفاظ، والأسامي لا يخرج عن مرضاة الأوائل، وكذلك ما أخذته عن علماء المذكورين من تحسين لفظ، أو تسجيع، وعظ لا يخرج عن قانون الجواز، وما ذاك إلا بمثابة جمع القرآن الذي ابتدأ به أبو بكر رضي الله عنه وثنى به عثمان، وجمع عمر الناس على قرائه في شهر رمضان، وأذن لتميمي الداري أن (2/ 536) يقص، ومثل هذه لا تذم لكونها ابتدعت إذ ليست بخارجة عن أصل المشروع، وقال الحسن: القصص بدعة كم من أخ يستفيد، ودعوة يستجاب انتهى. وذكر الشيخ الأجل مسند الوقت أحمد ولي الله المحدث الدهولي رحمه الله في كتابة ((القول الجميل في بيان سواء السبيل)) فصل في بيان آداب الوعظ، والواعظ، وعبارته هذه قال الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: فالتذكير ركن عظيم، ولنتكلم في صفة المذكر، وكيفية التذكير، والغاية التي يلمحها المذكر، ومن أي علم استمداده، وماذا أركانه وما آداب المستمعين، وما الآفات التي تعتري في وعاظ زماننا ومن الله الاستعانة. أما المذكر: فلا بد أن يكون مكلفا عدلا كما اشترطوا في راوي الحديث والشاهد محدثا مفسرا، عالما بجملة كافية من أخبار السلف الصالح وسيرتهم، ونعني بالمحدث المشتغل بكتب الحديث بأن يكون قرأ لفظها، وفهم معناها، وعرف صحتها، وسقمها ولو بإخبار حافظ، أو استنباط فقيه، وكذلك بالمفسر المشتغل بشرح غريب كتاب الله وتوجيه مشكلة، وبما روي عن السلف في تفسيره. ويستحب مع ذلك أن يكون فصيحا لا يتكلم مع الناس، إلا قدر فهمهم وأن يكون لطيفا ذا وجه ومروة. وأما كيفية التذكير: فهو أن لا يذكر إلا غبا، ولا يتكلم، وفيهم ملال بل إذا عرف فيهم الرغبة، ويقطع عنهم وفيهم رغبة، وأن يجلس في مكان ظاهر كالمسجد، وأن يبدأ الكلام بحمد الله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويختم بها ويدعو للمؤمنين عموما، وللحاضرين خصوصا، ولا يخص في الترغيب، والترهيب فقط بل يشوب كلامه من هذا، ومن ذلك كما هو سنة الله من إرداف الوعد بالوعيد، والبشارة بالإنذار وأن يكون ميسرا لا معسرا، ويعم بالخطاب، ولا يخص طائفة دون طائفة (2/ 537)، وأن لا يشافه بذم قوم، أو الإنكار على شخص بل يعرض مثل أن يقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا، ولا يتكلم بسقط، وهزل ويحسن الحسن، ويقبح القبيح، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ولا يكون إمعة. وأما الغاية التي يلمحها المذكر فينبغي أن يزور في نفسه صفة المسلم في أعماله، وحفظ لسانه، وأخلاقه، وأحواله القلبية، ومداومته على الأذكار، ثم ليتحقق فيهم تلك الصفة بكمالها بالتدريج على حسب فهمهم فيأمر أولا بفضائل الحسنات، ومساوئ السيئات في اللباس، والزي والصلوات وغيرها، فإذا تأدبوا فليأمر بالأذكار، فإذا أثر فيهم فليحرضهم على ضبط اللسان، والقلب وليستعن في تأثير هذه في قلوبهم بذكر أيام الله ووقائعه من باهر أفعاله، وتصريفه، وتعذيبه لأمم في الدنيا ثم بهول الموت، وعذاب القبر، وشدة يوم الحساب، وعذاب النار، وكذلك بترغيبات على حسب ما ذكرنا. وأما استمداده فليكن من كتاب الله على تأويله الظاهر، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم المعروفة عند المحدثين، وأقاويل الصحابة، والتابعين، وغيرهم من صالح المؤمنين، وبيان سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يذكر القصص المجازفة فإن الصحابة أنكروا على ذلك اشد الإنكار، وأخرجوا أولئك المساجد، وضربوهم، وأكثر ما يكون هذا في الإسرائيليات التي لا تعرف صحتها، وفي السيرة، وشأن نزول القرآن. وأما أركانه: فالترغيب، والترهيب، والتمثيل بالأمثال الواضحة، والقصص المرققة، والنكات النافعة فهذا طريق التذكير، والشرح، والمسئلة التي يذكرها، إما من الحلال، والحرام، أو من باب آداب الصوفية، أو من باب الدعوات، أو من عقائد الإسلام فالقول الجلي أن هناك مسئلة يعلمها، وطريقها في تعليمها. وأما آداب المستمعين: فإن يستقبلوا المذكر ولا يلعبوا، ولا يلغطوا، ولا يتكلموا فيها بينهم، ولا يكثروا السؤال من المذكر في كل مسئلة، بل إذا عرض خاطر. فإن كان لا يتعلق بالمسئلة تعلقا قويا، أو كان دقيقا لا يتحمله فهوم العامة (2/ 538) فليسكت عنه في المجلس الحاضر فإن شاء سأله في الخلوة. وإن كان له تعلق قوي كتفصيل إجمال، وشرح غريب فلينتظر حتى إذا انقضى كلامه، وليعد المذكر كلامه ثلث مرات فإن كان هناك أهل لغات شتى، والمذكر يقدر أن يتكلم على ألسنتهم فليفعل ذلك. وليجتنب دقة الكلام وإجماله. وأما الآفات التي تعتري الوعاظ في زماننا فمنها: عدم تمييزهم بين الموضوعات، وغيرها بل غالب كلامهم الموضوعات والمحرفات، وذكر الصلوات، والدعوات التي عدها المحدثون من الموضوعات. ومنها: مبالغتهم في شيء من الترغيب والترهيب. ومنها: قصصهم قصة كربلا، والوفاة، وغير ذلك، وخطبهم فيها انتهى. قلت: ويشمل قوله غير ذلك مجالس قصة الولادة، وما يكون فيها من القيام، وعند ذكر ولادته صلى الله عليه وسلم. وقد صرح جماعة من أهل العلم بالكتاب، والسنة بأن محفل الميلاد بدعة، لم يرد دليل، ولم يدل عليه نص من الشرع. منهم الشيخ الأجل، والصوفي الأكمل مجدد الألف الثاني الشيخ أحمد الفاروقي السهرندي، وجم غفير من أتباعه. ومنهم: الإمام العلامة المجتهد المطلق الفهامة شيخنا القاضي محمد بن علي الشوكاني اليماني، وجمع كثير من تلامذته. ومنهم: سيدي الوالد الماجد حسن بن علي الحسيني البخاري القنوجي رضي الله عنهم، وعصابة من مستفيديه وأخلافه. وما ذهب إليه طائفة من العلماء المقلدة من أن البدعة تنقسم إلى كذا وكذا، فهو قول ساقط مردود، لا يعتد به، ولا يلتفت إليه كيف والحديث الصحيح (كل بدعة ضلالة) نص قاطع، وبرهان ساطع لرد البدع كلها كائنا ما كان (2/ 539). والدليل في ذلك على من قال بالقسمة، والمانع يكفيه القيام في مقام المنع حتى يظهر ما يخالفه ظهورا بينا لا شك فيه، ولا شبهة. وأما آراء الرجال وأقوال الناس، وروايات الكتب الفقهية، والفتاوى المذهبية فلا تسأل عنها فإنها لكثرة العبائر، ووفرة الوجوه، والنظائر لا تكاد تنحصر في صحف السماء، والأرض فضلا عن الأوراق، ومن قلد ولم يتبع فقد ضل عن الحق، وغاب عن الصواب، ودخل في الباطل وهوى في مهوى التباب، وبالله العصمة والتوفيق. ويسمى علم المنطق تقدم، وإنما سمي بالميزان إذ به توزن الحجج والبراهين. وكان أبو علي يسميه: خادم العلوم، إذ ليس مقصودا بنفسه بل هو وسيلة إلى العلوم، فهو كخادم لها. وأبو نصر يسميه: رئيس العلوم لنفاذ حكمه فيها فيكون رئيسا حاكما عليها وإنما سمي بالمنطق لأن النطق يطلق على اللفظ، وعلى إدراك الكليات، وعلى النفس الناطقة. ولما كان هذا الفن يقوي الأول، ويسلك بالثاني مسلك السداد، ويحصل بسببه كمالات الثالث اشتق له اسم منه، وهو المنطق. وهو: علم بقوانين تفيد معرفة طرق الانتقال من المعلومات إلى المجهولات، وشرائطها بحيث لا يعرض الغلط في الفكر. والمعلومات: تتناول الضرورية والنظرية. والمجهولات: تتناول التصورية، والتصديقية، وهذا أولى مما ذكره صاحب الكشف تفيد معرفة طرق الانتقال من الضروريات إلى النظريات لأنه يوهم (2/ 540) بالانتقال الذاتي علم ما يتبادر من العبارة، والمراد الأعم من أن يكون بالذات، أو بالواسطة. وأما احترازاته: فقد ذكرها صاحب كشاف اصطلاحات الفنون، وليس إيرادها ههنا من غرضنا في هذا الكتاب. والمنطق من العلوم الآلية لأن المقصود منه تحصيل المجهول من المعلوم، ولذا قيل: الغرض من تدوينه العلوم الحكمية فهو في نفسه غير مقصود، ولذا قيل المنطق آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر. وموضوعه: التصورات، والتصديقات، أي: المعلومات التصورية والتصديقية لأن بحث المنطقي عن أعراضها الذاتية، فإنه يبحث عن التصورات من حيث إنها توصل إلى تصور مجهول إيصالا قريبا، أي بلا واسطة كالحد، والرسم، أو إيصالا بعيدا ككونها كلية، وجزئية، وذاتية، وعرضية، ونحوها فإن مجرد أمر من هذه الأمور لا يوصل إلى التصور ما لم ينضم إليه آخر يحصل منها حد أو رسم. ويبحث عن التصديقات من حيث أنها توصل إلى تصديق مجهول إيصالا قريبا كالقياس، والاستقراء، والتمثيل، أو بعيد ككونها قضية، وعكس قضية، ونقيضها فإنها ما لم تنضم إليه ضميمة لا توصل إلى التصديق. ويبحث عن التصورات من حيث أنها توصل إلى التصديق إيصالا أبعد ككونها موضوعات، ومحمولات، لا خفاء في أن إيصال التصورات والتصديقات إلى المطالب قريبا، أو بعيدا من العوارض الذاتية لها فتكون هي موضوع المنطق. وذهب أهل التحقيق إلى أن موضوعه المعقولات الثانية لا من حيث إنها ما هي في أنفسها، ولا من حيث أنها موجودة في الذهن، فإن ذلك وظيفة فلسفية بل من حيث أنها توصل إلى المجهول، أو يكون لها نفع في الإيصال. فإن المفهوم الكلي إذا وجد في الذهن وقيس إلى ما تحته من الجزئيات فباعتبار دخوله في ماهياتها يعرض له الذاتية، وباعتبار خروجه عنها العرضية وباعتبار (2/ 541) كونه نفس ماهياتها النوعية، وما عرض له الذاتية، جنس، باعتبار اختلاف أفراده، وفصل باعتبار آخر، وكذلك ما عرض له العرضية، إما خاصة أو عرض عام باعتبارين مختلفين. وإذا ركبت الذاتيات والعرضيات إما منفردة أو مختلطة، على وجوه مختلفة، عرض لذلك المركب الحدية والرسمية، ولا شك أن هذه المعاني أعني كون المفهوم الكلي ذاتيا، أو عرضيا، أو نوعا، ونحو ذلك ليست من الموجودات الخارجية، بل هي مما يعرض للطبائع الكلية إذا وجدت في الأذهان، وكذا الحال في كون القضية، حملية أو شرطية، وكون الحجة قياسا، أو استقراء، أو تمثيلا، فإنها بأسرها عوارض تعرض لطبائع النسب الجزئية في الأذهان، إما وحدها أو مأخوذة مع غيرها فهي، أي المعقولات الثانية موضوع المنطق. ويبحث المنطقي عن المعقولات الثالثة، وما بعدها من المراتب، فإنها عوارض ذاتية للمعقولات الثانية فقط. فالقضية مثلا معقول ثان يبحث عن انقسامها، وتناقضها، وانعكاسها، وإنتاجها، إذا ركبت بعضها مع بعض، فالانعكاس والإنتاج والانقسام والتناقض، معقولات واقعة في الدرجة الثالثة من التعقل، وإذا حكم على أحد الأقسام، أو أحد المتناقضين مثلا في المباحث المنطقية بشيء، كان ذلك الشيء في الدرجة الرابعة من التعقل، وعلى هذا القياس. وقيل: موضوعه الألفاظ من حيث أنها تدل على المعاني، وهو ليس بصحيح لأن نظر المنطقي ليس إلا في المعاني، ورعاية جانب اللفظ إنما هي بالعرض. والغرض من المنطق: التمييز بين الصدق والكذب في الأقوال، والخير، والشر في الأفعال، والحق والباطل في الاعتقادات. ومنفعته: القدرة على تحصيل العلوم النظرية والعملية. وأما شرفه: فهو أن بعضه فرض وهو البرهان، لأنه لتكميل الذات وبعضه (2/ 542) فأول من نص على ذلك الإمام الشافعي، ونص عليه من أصحابه إمام المحرمين والغزالي في آخر أمره، وابن الصباغ صاحب ((الشامل)) وابن القشيري، ونصر المقدسي، والعماد بن يونس، وحفيده، والسلفي، وابن بندار، وابن عساكر، وابن الأثير، وابن الصلاح، وابن دقيق العيد، والبرهان الجعبري، وأبو حيان، والشرف الدمياطي، والذهبي، والطيبي، والملوي، والأسنوي، والأذرعي، والولي العراقي، والشرف المقري، قال: وأفتى به شيخنا قاضي القضاة شرف الدين المناوي. ونص عليه من أئمة المالكية ابن أبي زيد صاحب ((الرسالة))، والقاضي أبو بكر بن العربي، وأبو بكر الطرطوسي، وأبو الوليد الباجي، وأبو طالب المكي، صاحب ((قوت القلوب)) وأبو الحسن بن الحصار، وأبو عامر بن الربيع، وأبو الحسن بن حبيب، وأبو حبيب المالقي، وابن المنير، وابن رشد، وابن أبي حمزة، وعامة أهل المغرب. ونص عليه من الأئمة الحنفية: أبو سعيد السيرافي، والسراج القزويني، وألف في ذمه كتابا ((سماه نصيحة المسلم المشفق لمن ابتلى بعلم المنطق)). ونصل عليه من أئمة الحنابلة: ابن الجوزي، وسعد الدين الحارثي، والتقي ابن تيمية، وألف في ذمه ونقض قواعده مجلدا كبيرا اسمه ((نصيحة ذوي الإيمان في الرد على منطق اليونان)) انتهى كلامه. ومن عرف معنى الهيولي الذي جعله سببا لتحريم هذا الفن لابتناء بعضه عليه. علم أن السيوطي رحمه الله تعالى في هذا الفن ناقة ولا جمل، ورجل ولا حمل، فهو معذور. وقد قال بقول هؤلاء جماعة من أهل البيت، وابن حزم الظاهري، قال في الجوهرة: وقد فرط الغزالي وأفرط. وأما تفريطه: فكونه زعم أنه لا حاجة إلى علم الكلام. وأما إفراطه: فلأنه شرط للمجتهد ما لم يشترط أحد من علماء الإسلام من (2/ 543) نقل. وهو ما سوى البرهان من أقسام القياس لأنه للخطاب مع الغير، ومن أتقن المنطق فهو على درجة من سائر العلوم، ومن طلب العلوم الغير المتسقة وهي ما لا يؤمن فيها من الغلط ولا يعلم المنطق فهو كحاطب ليل. وكرامد العين لا يقدر على النظر إلى الضوء لا لبخل من الموجد بل لنقصان في الاستعداد. والصواب الذي يصدر من غير المنطقي كرمي من غير رام، وقد يندر للمنطقي خطأ في النوافل دون المهمات، لكنه يمكنه استدراكه بعرضه على القوانين المنطقية. ومرتبته في القراءة أن يقرأ بعد تهذيب الأخلاق، وتقويم الفكر ببعض العلوم الرياضية مع الهندسة والحساب. وأما الأول: فلما قال أبقراط: البدن ليس بنقي كلما غذوته إنما يزيد شرا ووبالا، ألا ترى أن الذين لم يهذبوا أخلاقهم إذا شرعوا في المنطق سلكوا منهج الضلال، وانخرطوا في سلك الجهال، وأنفوا أن يكونوا مع الجماعة، ويتقلدوا ذل الطاعة فجعلوا الأعمال الطاهرة، والأقوال الظاهرة من البدائع التي وردت بها الشرائع، وقر آذانهم، والحق تحت أقدامهم. وأما الثاني: فلتستأنس طبائعهم إلى البرهان كذا في شرح إشراق الحكمة، ومؤلف المنطق ومدونه أرسطو انتهى. ما في((كشاف اصطلاحات الفنون)). ولشيخنا الإمام العلامة قاضي القضاة محمد بن علي الشوكاني رسالة في هذا الباب سماه ((أمنية المتشوق في حكم المنطق)) قال فيها: الخلاصة في ذلك أنه ذهب إلى لزوم تعلم المنطق الغزالي وجماعة وذهب إلى تكريهه قوم. وقال بإباحته جمع جم، وصرح بتحريمه جماعة. قال السيوطي في ((الحاوي)): المنطق هو: فن خبيث مذموم يحرم الاشتغال به مبني بعض ما فيه على القول بالهيولي الذي هو كفر يجر إلى الفلسفة والزندقة. وليس له ثمرة دينية أصلا بل ولا دنيوية، نص على جميع ما ذكرته أئمة الدين وعلماء الشريعة (2/ 544) معرفة صناعة المنطق، ولهذا قال المهدي في أوائل البحر: وأما المنطق فالمحققون لا يعدونه لإمكان البرهان دونه، يعني لا يعدونه من علوم الاجتهاد. وفي منهاج القرشي: أن الفلاسفة وضعوا علم المنطق خديعة، وتوصلا إلى إبطال مسائل التوحيد، لأنهم جعلوا قياس الغائب على الشاهد ظنيا، وجميع مسائل التوحيد مبنية عليه، فتوصلوا بهذا إلى أن الكلام في إثبات الصانع وصفاته ظني لا يمكن العلم به، وتوصلا إلى إبطال مسائل العدل، لأنهم جعلوا الحكم بقبح المظلم والكذب ونحو ذلك، والحكم بحسن العدل ووجوب رد الوديعة وشكر المنعم ونحو ذلك، أمورا مشهورات مسلمات ليس فيها إلا ظن ضعيف، فلا يحكم الإنسان بقبح الظلم إلا لرقة قلبه، أو الحمية، أو لمحبة التعاون على المعاش، ونحو ذلك. فتوصلوا بذلك إلى إبطال العدل والوعيد والشرائع، وتكلفوا للتوصل إلى هذه الخديعة فناً من أدق الفنون، والبراهين الحاصلة عن أشكالهم نوع واحد من أنواع العلوم وهو إلحاق التفصيل بالجملة، وهو أقل العلوم كلفة وإن لم يكن ضروريا كمن يعلم أن كل ظلم قبيح، ثم يعلم في وقت معين أنه ظلم، فإنه يعلم أن هذا المعين قبيح إلحاقا للتفصيل بالجملة، ولا يحتاج إلى إيراد مقدمتين في شكل مخصوص، انتهى. قال القاضي علي بن عبد الله بن رادع: ولقد عرفت صحة ما ذكره في المنهاج بسماعي لمعظم كتب المنطق كالرسالة الشمسية وشرحها وغيرهما، ووجدت ما يذكرونه في أشكالهم لا فائدة فيه إلى آخر، ما قال في شرحه للأثمار، ولقد عجبت من قول هذا القاضي حيث قال: بسماعي لمعظم كتب المنطق، ثم تكلم بعد ذلك بكلام يشعر بعدم معرفته لأول بحث من مباحث الرسالة الشمسية. وكثيرا من يظن أنه قد عرف علم المنطق وهو لا يعرفه لأنه علم دقيق لا يفتح هذه الإشكالات الباردة. قال ابن رادع في ((شرح الأثمار)): روي عن المؤلف أيده الله أنه قال: إن (2/ 545) العلماء المتقدمين كانوا إذا اطلعوا على شيء من ألفاظ الفلاسفة في أي كلام يرد عليهم اكتفوا في رده وإبطاله، بكون فيه شيء من عبارة الفلاسفة، ولم يتشاغلوا ببيان بطلانه، وإن كثيرا من العلماء المتقدمين، وكثيرا من المتأخرين نهوا عن الخوض فيه أشد النهي. وصنف الشيخ جلال الدين السيوطي كتابا سماه ((القول المشرق في تحريم الاشتغال بالمنطق))، ولم يشتغل من اشتغل من المتأخرين إلا لما كثر التعبير بقواعده من المخالفين، واستعانوا بالخوض فيه على تيسير الرد عليهم بالطريق التي سلكوها، وكان الأولى السلوك في طريقة المتقدمين لأن قواعد التعبير بعبارة المنطق كثيرة الغلط وخارجة عن عبارة الكتاب والسنة واللسان العربي، مع أنه مفسدة في كل من الأديان. وقد روي أن بعض الخلفاء العباسيين لما طلب الفلاسفة ترجم علم المنطق باللغة العربية شاور كبيرا لهم، فقال: ترجموه لهم فإن علمنا هذا لا يدخل في دين إلا أفسده. قال المؤلف رحمه الله: وقد وجد ذلك الكلام صحيحا، فإن كثيرا من المتعمقين في علم المنطق من المسلمين، قد مال في كثير من الأصول إلى ما يفكر به قطعا. وأما غير المسلمين من أهل الكتاب فقد تفلسف أكثرهم، ولهذا إن كل من خرج عن الأصول الشرعية والعقلية لا يعتمد غيره مثل الباطنية والصوفية وغيرهم، انتهى. وقال جماعة من العلماء: القول الفصل فيه أنه كالسيف يجاهد به شخص في سبيل الله، ويقطع به آخر الطريق. قال الإمام يحيى بن حمزة: إن كان الإطلاع عليه لقصد حل شبهة ونقضها جاز ذلك، بل هو الواجب على علماء الإسلام. وإن كان الإطلاع عليه لقصد حل شبهة ونقضها جاز ذلك بل هو الواجب (2/ 546) والمنطق أصلاً. وعلى الجملة فاستعمال المتأخرين لفن المنطق في كتبهم معلوم لكل باحث، ومن أنكر هذا بحث أي كتاب شاء من الكتب المتداولة بين الطلبة التي هي مدارس أهل العصر في هذه العلوم، فإنه يجد معرفة ذلك متعسرة إن لم تكن متعذرة بدون علم المنطق خصوصاً علم الأصول. فإنها قد جرت عادة مؤلفيه باستفتاح كتبهم بهذا العلم، كابن الحاجب في مختصر المنتهى، وشرحه وابن الإمام في غاية السول وشرحها، وغيرهما دع عنك المطولات والمتوسطات، هذه المختصرات التي هي مدرس المبتدئ في زماننا كالمعيار للإمام المهدي وشروحه، والكافل لابن بهران وشروحه، قد اشتمل كل واحد منها على مباحث من هذا العلم لا يعرفها إلا أربابه ومن ادعى معرفتها بدون هذا العلم فهو يعرف كذب نفسه. الطرف الثالث: إن كتب المنطق التي يدرسها طلبة العلوم في زماننا، كرسالة إيساغوجي للأبهري وشروحها، التهذيب للسعد وشروحه، والرسالة الشمسية وشروحها، وما يشابه هذه الكتب قد هذبها أئمة الإسلام تهذيبا صفت به عن كدورات أقوال المتقدمين، فلا ترى فيها إلا مباحث نفيسة، ولطائف شريفة، تستعين بها على دقائق العلوم، وتحل بها إيجازات المائلين إلى تدقيق العبارات، فإن حرمت نفسك معرفتها فلاحظ لك بين أرباب التحقيق، ولا صحة لنظرك بين أهل التدقيق، فاصطبر على ما تسمعه من وصفك بالبلة والبلادة، وقلة الفطنة، وقصور البابع. فإن قلت: السلف أعظم قدوة، وفي التشبه بهم فضيلة قلت: لا أشك في قولك، ولكنه قد حال بينك وبينهم مئات من السنين، وكيف لك بواحدة من أهل القرن الأول، والثاني، أو الثالث، تأخذ عنه المعارف الصافية عن كدر المنطق، هيهات هيهات حال بينك وبينهم عصور ودهور فليس في زمانك رجل يسبح في لجج مقدمات علم الكتاب والسنة إلا وعلم المنطق من أول محفوظاته، ولا كتاب من (2/ 547) على علماء الإسلام. وإن كان لغرض غير ذلك كالاقتفاء لآثارهم، والتدين بدينهم، فهو الكفر والفرية التي لا شبهة فيها ولا مرية، وفي هذا القدر من أقوال العلماء كفاية، وإن كان المجال يتسع لأضعاف أضعاف ذلك، وليس مرادنا إلا الإشارة إلى الاختلاف في هذا العلم. وأما ما هو الحق من هذه الأقوال فاعلم أنه لا يشك من له مسكة في صحة أطراف ثلاثة نذكرها هاهنا نجعلها كالمقدمة لما نرجحه. الطرف الأول: إن علم المنطق علم كفري واضعه الحكيم أرسطاطاليس اليوناني، وليس من العلوم الإسلامية بإجماع المسلمين، والمنكر لهذا منكر للضرورة، وليس للمشتهرين بمعرفته المكبين على تحقيق مطالبه من المسلمين كالفارابي، وابن سينا، ومن نحا نحوهم، إلا التفهم لدقائقه والتعريف بحقائقه، ولهذا قال الفارابي وهو أعلم المسلمين بهذا الفن لما قال له قائل: أيما أعلم أنت أم أرسطاطايس؟ فقال: لو أدركته لكنت من أكبر تلامذته. الطرف الثاني: إن المتأخرين من علماء الإسلام، ولا سيما أئمة الأصول، والبيان، والنحو، والكلام، والجدل، من أهل البيت وغيرهم قد استكثروا من استعمال القواعد المنطقية في مؤلفاتهم في هذه الفنون وغيرها، وبالغ المحقق ابن الإمام الحسين بن القاسم، في شرح غاية السول فقال: وهاهنا أبحاث يحتاج إليها. أما الأول: فلان هذا العلم لما كان علما بكيفية الاستنباط وطريقة الاستدلال عن دلائل، وكان المنطق علما بكيفية مطلق الاستدلال والاستنباط شارك المنطق وشابهه من هذه الجهة حتى كأنه جزئي من جزئيات المنطق وفرع من فروعه، ولا ريب في أن إتقان الأصل وتدبره أدخل لإتقان الفرع والتبصر فيه انتهى بلفظه. فانظر كيف جعل علم الأصول جزئيا من جزئيات المنطق، وجعله فرعا (2/ 548) فنون هذه المقدمات، إلا وقد اشتمل على أبحاث منه، فأنت بخير النظرين. أما الجهل بالعلوم التي لا سبيل إلى معرفة الكتاب والسنة إلا بها. أو الدخول فيما دخل فيه أبناء عصرك والكون في أعدادهم، ولا أقول لك: لا سبيل لك إلى كتب المتقدمين التي لم تشب بهذا لعلم، بل ربما وجده منها ما يكفيك عن كتب المتأخرين، ولكنك لا تجد أحدا من أبناء عصرك تأخذها عنه بسنده المتصل بطريق السماع، كما تجد كتب المتأخرين كذلك، ولا أقول لك أيضاً: إن علم الكتاب والسنة متوقف لذاته على معرفة علم المنطق فإن دين الله أيسر من أن يستعان على معرفته بعلم كفري، ولكن معرفة علم الأصول، والبيان، والنحو، والكلام، على التمام والكمال متوقفة على معرفته في عصرنا لما أخبرناك به، ومعرفة كتاب الله، وسنة نبيه، متوقفة على معرفتها على نزاع والمتوقف على المتوقف متوقف. وسبب التوقف بهذه الواسطة محبة المتأخرين للتدقيق والإغراب في العبارات، واستعمال قواعد المناطقة، واصطلاحاتهم وليتهم لم يفعلوه، فإنه قد تسبب عن ذلك بعد الوصول إلى المطلوب على طالبه، وطول المسافة، وكثرة المشقة، حتى إن طالب الكتاب والسنة بما لا يبلغ حد الكفاءة لقراءتهما إلا بعد تفويت أعوام عديدة، ومعاناة معارف شديد، فيذهب في تحصيل الآلات معظم مدة الرغبة، واشتغال القريحة وجودة الذكاء فيقطعه ذلك عن الوصول إلى المطلوب، وقد يصل إليهما بذهن كليل، وفهم عليل، فيأخذ منه بأنزر نصيب، وأحقر حظ. وهذا هو السبب الأعظم في إهمال علمي الكتاب والسنة في المتأخرين لأنهم قد أذهبوا رواء الطلب، وبهاء الرغبة في غيرهما، ولو أنفقوا فيهما بعض ما أنفقوا في آلاتهما لوجدت فيهم الحفاظ المهرة والأئمة الكملة والله المستعان (2/ 549). وحاصل البحث: أنه لم يأت من قال بتحريم علم المنطق بحجة مرضية، إلا قوله أنه علم كفري، ونحن نسلم ذلك، ولكنا نقول: قد صار في هذه الأعصار بذلك السبب من أهم آلات العلوم حلال أو حرام، بل يتوقف كثير من المعارف عليه فاشتغل به اشتغالك بفن من فنون الآلات، ولا تعبأ بتشغيبات المتقدمين وبتشنيعات المقصرين، وعليك بمختصرات الفن، كالتهذيب، والشمسية، واحذر من مطولاته المستخرجة على قواعد اليونان، كشفاء ابن سينا، وما يشابهه من كتبه وكتاب الشفاء، والإشارات، وما يليهما من المطولات والمتوسطات التي خلط فيها أهلها المنطق بالحكمة اليونانية، والفلسفة الكفرية، يضل أكثر المشتغلين بها، ويبعدهم عن الصراط السوي، والهدي النبوي الذي أمرنا باتباعه بنصوص الكتاب والسنة، والله تعالى أعلم بالصواب. ذكره في ((كشف الظنون)) ولم يبينه، ولعل المراد به علم مواقيت الصلوات الخمس، أو ميقات الناس على اختلاف مساكنهم وبلدانهم عند إرادة الحج والعمرة، وقد رود في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، قال: فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة، فمن كان دونهن فمهله من أهله، وكذلك أهل مكة يهلون منها). وفائدة التوقيت: المنع عن تأخير الإحرام فلو قدم عليه جاز. والغرض منه والمنفعة والغاية ظاهرة لمن يعرف دين الإسلام. وميقات العمرة هو: الحل، وأفضل بقاع الحل، الجعرانة، ثم التنعيم، ثم الحديبية، وقال في العالمكيرية: التنعيم أفضل انتهى (2/ 550). لكن قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله: لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أحد يخرج من مكة ليعتمر إلا لعذر لا في رمضان ولا في غيره، والذين حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فيهم من اعتمر بعد الحج من مكة، إلا عائشة رضي الله عنها، ولا كان هذا من فعل الخلفاء الراشدين، انتهى. وزاد تلميذه الحافظ الواحد المتكلم محمد بن أبي بكر بن القيم رحمه الله: أنه لم تكن في عمره صلى الله عليه وسلم عمرة واحدة خارجا من مكة، كما يفعله كثير من الناس، وإنما كانت عمرة كلها داخلا إلى مكة، وقد قام بعد الوحي ثلاث عشرة سنة لم ينقل أنه اعتمر خارجا من مكة، ولم يفعله أحد على عهده قط إلا عائشة، لأنها أهلت بالعمرة، فحاضت، فأمرها فقرنت وأخبر أن طوافها بالبيت وبالصفا وبالمروة قد وقع عن حجتها وعمرتها، فوجدت في نفسها أن ترجع صواحبها بحجة وعمرة مستقلتين، فإنهن كن ممتعات ولم يحضن، وترجع هي بعمرة في ضمن حجتها، فأمر أخاها أن يعمرها من التنعيم مطيبا لقلبها، والله تعالى أعلم، انتهى. ولأسماء الميقات تفسير وتحقيق ذكره أهل الحديث في شروحه وذكرته في رسالتي ((رحلة الصديق إلى البيت العتيق)) مبسوطا فارجع إليه واعتمد عليه فأنه ينفعك نفعا تاما (2/ 551). ذكره في ((كشف الظنون)). وقال في ((مدينة العلوم)): هو: علم يبحث فيه عن خواص نوع النباتات وعجائبها وأشكالها ومنافعها ومضارها. وموضوع نوع النبات. وفائدته ومنفعته التداوي بها، ولابن البيطار فيه تصنيف فائق ولا أجمع ولا أنفع من كتاب ما لا يسع الطبيب جهله ويوجد نبذ من خواصها في الصحف الطبية. هو: من فروع الطبعي وهو وعلم بأصول تعرف بها أحوال الشمس والقمر وغيرهما من بعض النجوم، كذا في بعض حواشي الشافية قاله في ((كشاف اصطلاحات الفنون)). وفي ((كشف الظنون)) هو: علم يعرف به الاستدلال على حوادث علم الكون والفساد بالتشكلات الفلكية، وهي أوضاع الأفلاك والكواكب كالمقارنة والمقابلة (2/ 552) والتثليث والتسديس والتربيع إلى غير ذلك، وهو عند الإطلاق ينقسم إلى ثلاثة أقسام حسابية وطبيعيات ووهميات. أما الحسابيات: فهي يقينية في علمها قد يعمل بها شرعا. وأما الطبيعيات: كالاستدلال بانتقال الشمس في البروج الفلكية على تغيير الفصول كالحر والبرد والاعتدال فليست بمردودة شرعا أيضاً. أما الوهميات: كالاستدلال على الحوادث السفلية خيرها وشرها من اتصالات الكواكب بطريق العموم والخصوص، فلا استناد لها إلى أصل شرعي، ولذلك هي مردودة شرعاً كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا ذكر النجوم فامسكوا). وقال: (تعلموا من النجوم ما تهتدون به في البر والبحر ثم انتهوا). الحديث. وقال صلى الله عليه وسلم: (من آمن بالنجوم فقد كفر) لكن قالوا هذا إن اعتقد أنها مستقلة في تدبير العالم. وقال الشافعي رحمه الله: إذا اعتقد المنجم أن المؤثر الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى لكن عادته سبحانه وتعالى جارية بوقوع الأحوال بحركاتها وأوضاعها المعهودة في ذلك لا بأس عندي. كذا ذكره السبكي في طبقاته الكبرى. وعلى هذا يكون استناد التأثير حقيقة إلى النجوم مذموما فقط. قال بعض العلماء: إن اعتقاد التأثير إليها بذاتها حرام. وذكر صاحب ((مفتاح السعادة)) أن الحافظ ابن القيم الجوزي أطنب في الطعن فيه والتنفير عنه. فإن قيل: لم لا يجوز أن تكون بعض الأجرام العلوية أسباب للحوادث السفلية، فيستدل النجم العاقل من كيفية حركات النجوم واختلافات مناظرها وانتقالاتها من برج إلى برج على بعض الحوادث قبل وقوعها؟. يقال: يمكن على طريق إجراء العادة أن يكون بعض الحوادث سببا لبعضها، لكن لا دليل فيه على كون الكواكب أسبابا للعادة وعللا للنحوسة لا حسا ولا عقلا (2/ 553) ولا سمعا. أما حسا: فظاهر أن أكثر أحكامهم ليست بمستقيمة، كما قال بعض الحكماء: جزئياتها لا تدرك، وكلياتها لا تتحقق. وإما عقلا: فإن علل الأحكاميين وأصولهم متناقضة حيث قالوا: إن الأجرام العلوية ليست بمركبة من العناصر بل هي طبيعية خاصة، ثم قالوا ببرودة زحل ويبوسته، وحرارة المشتري ورطوبته، فأثبتوا الطبيعة للكواكب وغير ذلك. وأما شرعا: فهو مذموم بل ممنوع كما قال صلى الله عليه وسلم: (من آتي كاهنا بالنجوم أو عرافا أو منجما فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد). الحديث. وسبب المبالغة في النهي عن هذه الثلاثة ذكره الشيخ علاء الدولة في (العروة الوثقى) وقال علي بن أحمد النسوي: علم النجوم أربع طبقات: الأولى: معرفة رقم التقويم ومعرفة الإسطرلاب حسبما هو يتركب. والثانية: معرفة المدخل إلى علم النجوم ومعرفة طبائع الكواكب والبروج ومزاجاتها. والثالثة: معرفة حسنات أعمال النجوم وعمل الزيج والتقويم. والرابعة: معرفة الهيئة والبراهين الهندسية على صحة أعمال النجوم، ومن تصور ذلك فهو المنجم التام على التحقيق، وأكثر أهل زماننا قد اقتصروا من علم التنجيم على الطبقتين الأوليين، وقليل منهم يبلغ الطبقة الثالثة. والكتب المصنفة فيه كثيرة منها: الأحكام، وأبو قماش، وأدوار وإرشاد، والبارع، ومختصر البارع، وتحاويل وتنبيهات المنجمين وتفهيم، الجامع الصغير، ودرج الفلك، والسراج، والقرانات، ولطائف الكلام، ومجمل الأصول، ومجموع ابن شرع، ومسائل القصر، وغير ذلك انتهى ما في ((كشف الظنون)). وفي ((كشاف اصطلاحات الفنون)). موضوعه: النجوم من حيث يمكن أن تعرف بها أحوال العالم ومسائله (2/ 554) كقولهم: كلما كان الشمس على هذا الموضع المخصوص فهي تدل على حدوث أمر كذا في هذا العالم انتهى. وقال ابن خلدون: هذه الصناعة يزعم أصحابها أنهم يعرفون بها الكائنات في عالم العناصر قبل حدوثها من قبل معرفة قوى الكواكب، وتأثيرها في المولدات العنصرية مفردة ومجتمعة، فتكون لذلك أوضاع الأفلاك والكواكب دالة على ما سيحدث من نوع من أنواع الكائنات الكلية والشخصية. فالمتقدمون منهم يرون أن معرفة قوى الكواكب وتأثيراتها بالتجربة، وهو أمر تقصر الأعمار كلها لو اجتمعت عن تحصيله، إذ التجربة إنما تحصل في المرات المتعددة بالتكرار ليحصل عنها العلم أو الظن، وأدوار الكواكب منها ما هو طويل الزمن فيحتاج تكرره إلى آماد وأحقاب متطاولة يتقاصر عنها ما هو طويل من أعمار العالم، وربما ذهب ضعفاء منهم إلى أن معرفة قوى الكواكب وتأثيراتها كانت بالوحي، وهو رأي قائل وقد كفونا مؤنة إبطاله. ومن أوضح الأدلة فيه: أن تعلم أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أبعد الناس عن الصنائع، وأنهم لا يتعرضون للأخبار عن الغيب إلا أن يكون عن الله، فكيف يدعون استنباطه بالصناعة ويشيرون بذلك لتابعيهم من الخلق. وأما بطليموس ومن تبعه من المتأخرين، فيرون أن دلالة الكواكب على ذلك دلالة طبيعية من قبل مزاج يحصل للكواكب في الكائنات العنصرية، قال: لأن فعل النيرين وأثرهما في العنصريات ظاهر لا يسع أحدا جحده، مثل، فعل الشمس في تبدل الفصول وأمزجتها، ونضج الثمار والزرع وغير ذلك. وفعل القمر في الرطوبات والماء وإنضاج المواد المتعفنة وفواكه القناء وسائر أفعاله. ثم قال: ولنا فيما بعدهما من الكواكب طريقان: الأولى: التقليد لمن نقل ذلك عنه من أئمة الصناعة إلا أنه غير مقنع للنفس (2/ 555). الثانية: الحدس والتجربة بقياس كل واحد منها إلى النير الأعظم الذي عرفنا طبيعته وأثره معرفة ظاهرة، فننظر هل يزيد ذلك الكوكب عند القرآن في قوته ومزاجه فتعرف موافقته له في الطبيعة، أو ينقص عنها فتعرف مضادته، ثم إذا عرفنا قواها مفردة عرفناها مركبة وذلك عند تناظرها بأشكال التثليث والتربيع وغيرهما ومعرفة ذلك من قبل طبائع البروج بالقياس أيضاً إلى النير الأعظم. وإذا عرفنا قوى الكواكب كلها فهي مؤثرة في الهواء وذلك ظاهر والمزاج الذي يحصل منها للهواء يحصل لما تحتها من المولدات وتتخلق به النطف والبزر فتصير حالا للبدن المتكون عنها، وللنفس المتعلقة به الفائضة عليه المكتسبة لما لها منه، ولما يتبع النفس والبدن من الأحوال لأن كيفيات البزرة والنطفة كيفيات لما يتولد عنهما وينشأ منهما. قال: وهو مع ذلك ظني، وليس من اليقين في شيء، وليس هو أيضاً من القضاء الإلهي، يعني: القدر، إنما هو من جملة الأسباب الطبيعية للكائن، والقضاء الإلهي سابق على كل شيء، هذا محصل كلام بطليموس وأصحابه، وهو منصوص في كتبه الأربع وغيره، ومنه يتبين ضعف مدارك هذه الصناعة، وذلك أن العلم الكائن، أو الظن به، إنما يحصل عن العلم بجملة أسبابه من الفاعل، والقابل، والصورة، والغاية على ما تبين في موضعه. والقوى النجومية على ما قرروه إنما هي فاعلة فقط والجزء العنصري هو القابل، ثم إن القوى النجومية ليست هي الفاعلة بجملتها، بل هناك قوى أخرى فاعلة معها في الجزء المادي، مثل: قوة التوليد للأب، والنوع التي في النطفة، وقوى الخاصة التي تميز بها صنف صنف من النوع وغير ذلك، فالقوى النجومية إذا حصل كمالها وحصل العلم فيها إنما هي فاعل واحد من جملة الأسباب الفاعلة للكائن، ثم إنه يشترط مع العلم بقوى النجوم وتأثيراتها، مزيد حدس، وتخمين، وحينئذ يحصل عنده الظن بوقوع الكائن والحدس والتخمين قوى للناظر في فكره، وليس من علل الكائن ولا من أصول الصناعة، فإذا فقد هذا الحدس والتخمين رجعت أدراجها عن الظن إلى الشك، هذا إذا حصل العلم بالقوى النجومية على (2/ 556). سداد ولم تعترضه آفة، وهذا معوز لما فيه من معرفة حسبانات الكواكب في سيرها لتتعرف به أوضاعها، ولما أن اختصاص كل كوكب بقوة لا دليل عليه ومدرك بطلميوس في إثبات القوى للكواكب الخمسة بقياسها إلى الشمس مدرك ضعيف، لأن قوة الشمس غالبة لجميع القوى للكواكب الخمسة بقياسها إلى الشمس مدرك ضعيف لأن قوة الشمس غالبة لجميع القوى من الكواكب ومستولية عليها فقل أن يشعر بالزيادة فيها، أو النقصان منها عند المقارنة، كما قال، وهذه كلها قادحة في تعريف الكائنات الواقعة في عالم العناصر بهذه الصناعة. ثم إن تأثير الكواكب فيما تحتها باطل إذ قد تبين في باب التوحيد أن لا فاعل إلا الله بطريق استدلالي كما رأيته، واحتج له أهل علم الكلام بما هو غني عن البيان من أن إسناد الأسباب إلى المسببات مجهول الكيفية، والعقل متهم على ما يقضي به فيما يظهر بادي الرأي من التأثير، فلعل استنادها على غير صورة التأثير المتعارف، والقدرة الإلهية رابطة بينهما كما ربطت جميع الكائنات علوا وسفلا، سيما والشرع يرد الحوادث كلها إلى قدرة الله تعالى ويبرأ مما سوى ذلك. والنبوات أيضاً منكرة لشأن النجوم وتأثيراتها واستقراء الشرعيات شاهد بذلك في مثل قوله: (إن الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته) وفي قوله: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب). الحديث الصحيح. فقد بان لك بطلان هذه الصناعة من طريق الشرع، وضعف مداركها مع ذلك من طريق العقل، مع ما لها من المضار في العمران الإنساني، بما تبعث في عقائد العوام من الفساد، إذا اتفق الصدق من أحكامها في بعض الأحايين اتفاقا لا يرجع إلى تعليل ولا تحقيق، فيلهج بذلك من لا معرفة له ويظن اطراد الصدق في سائر أحكامها وليس كذلك، فيقع في رد الأشياء إلى غير خالقها، ثم ما ينشأ عنها كثيرا في الدول من توقع القواطع وما يبعث عليه ذلك (2/ 558) التوقع من تطاول الأعداء والمتربصين بالدولة إلى الفتك والثورة. وقد شاهدنا من ذلك كثيرا فينبغي أن تحظر هذه الصناعة على جميع أهل العمران، لما ينشأ عنها من المضاد في الدين والدول، ولا يقدح في ذلك كون وجودها طبيعيا للبشر بمقتضى مداركهم وعلومهم، فالخير والشرط طبيعتان موجودتان في العالم لا يمكن نزعهما، وإنما يتعلق بالتكليف بأسباب حصولهم، فيتعين السعي في اكتساب الخير بأسبابه، ودفع أسباب الشر والمضار، هذا هو الواجب على من عرف مفاسد العلم ومضاره، وليعلم من ذلك أنها وإن كانت صحيحة في نفسها فلا يمكن أحدا من أهل الملة تحصيل علمها ولا ملكتها بل إن نظر فيها ناظر وظن الإحاطة بها فهو في غاية القصور في نفس الأمر. فإن الشريعة لما حظرت النظر فيها فقد الاجتماع من أهل العمران لقراءتها والتحليق لتعليمها، وصار المولع بها من الناس وهم الأقل وأقل من الأقل إنما يطالع كتبها ومقالاتها في كسر بيته متسترا عن الناس وتحت ربقه الجمهور مع تشعب الصناعة، وكثرة فروعها، واعتياصها على الفهم، فكيف يحصل منها على طائل، ونحن نجد الفقه الذي علم نفعه دينا ودنيا، وسهلت مآخذه من الكتاب والسنة، وعكف الجمهور على قراءته وتعليمه، ثم بعد التحقيق، والتجميع، وطول المدارسة، وكثرة المجالس وتعددها، إنما يحذق فيه الواحد في الأعصار والأجيال، فكيف بعلم مهجور للشريعة مضروب دونه سد الحظر والتحريم مكتوم عن الجمهور صعب المآخذ محتاج بعد الممارسة والتحصيل لأصوله وفروعه إلى مزيد حدس وتخمين يكتنفان به من الناظر، فأين التحصيل والحذق فيه مع هذه كلها، ومدعى ذلك من الناس مردود على عقبه. ولا شاهد له يقوم بذلك لغرابة الفن بين أهل الملة وقلة حملته، فاعتبر ذلك يتبين لك صحة ما ذهبنا إليه، والله أعلم بالغيب فلا يظهر على غيبة أحدا، ومما وقع في هذا المعنى لبعض أصحابنا من أهل العصر عندما غلب العرب عساكر السلطان أبي الحسن وحاصروه بالقيروان، وكثر إرجاف الفريقين الأولياء والأعداء، وقال في ذلك أبو القاسم الروحي من شعراء أهل تونس: استغفر الله كل حين ** قد ذهب العيش والهناء أصبح في تونس وأمسى ** والصبح لله والمساء الخوف والجوع والمنايا ** يحدثها الهرج والوباء والناس في مرية وحرب ** وما عسى ينفع المراء فاحمدي ترى عليا ** حل به الهلك والتواء وآخر قال سوف يأتي ** به إليكم صبا رخاء والله من فوق ذا وهذا ** يقضي لعبديه ما يشاء يا راصد الخنس الجواري ** ما فعلت هذه السماء مطلتمونا وقد زعمتم ** أنكم اليوم أملياء من خميس على خميس ** وجاء سبت وأربعاء ونصف شهر وعشرتان ** وثالث ضمه القضاء ولا نرى غير زور قول ** أذاك جهل أم ازدراء إنا إلى الله قدر علمنا ** أن ليس يستدفع القضاء رضيت بالله لي إلها ** حسبكم البدر أو ذكاء ما هذه الأنجم السواري ** إلا عباديد أو إماء يقضي عليها وليس تقضي ** وما لها في الورى اقتضاء
ضلت عقول ترى قديما ** ما شأنه الجرم والفناء وحكمت في الوجود طبعا ** يحدثه الماء والهواء لم ترحلوا إزاء مر ** تغذوهمو تربة وماء الله ربي ولست أدري ** ما الجوهر الفرد والخلاء ولا الهيولي التي تنادي ** ما لي عن صورة عراء ولا وجود ولا انعدام ** ولا ثبوت ولا انتفاء ولست أدري ما الكسب إلا ** ما جلب البيع والشراء (2/ 559) وإنما مذهبي وديني ** ما كان والناس أولياء إذ لا فصول ولا أصول ** ولا جدال ولا ارتياء ما تبع الصدر واقتفنينا ** يا حبذا كان الاقتفاء كانوا كما يعلمون منهم ** ولم يكن ذلك الهذاء يا أشعري الزمان إني ** أشعرني الصيف والشتاء أنا أجزي بالشر شرا ** والخير عن مثله جزاء وإنني إن أكن مطيعا ** فرب أعصي ولي رجاء وإنني تحت حكم بار ** أطاعه العرش والثراء ليس باستطاركم ولكن ** أتاحه الحكم والقضاء لو حدث الأشعري عمن ** له إلى رأيه انتماء فقال أخبرهم بأني ** مما يقولونه براء انتهى كلامه الشريف، ولله دره وعلى الله أجره. علم باحث عن أحوال المركبات الموضوعة وضعا نوعيا لنوع نوع من المعاني التركيبية النسبية من حيث دلالتها عليها. وغرضه: تحصيل ملكة يقتدر بها على إيراد تركيب وضع وضعا نوعيا لما أراده المتكلم من المعاني، وعلى فهم معنى أي مركب كان بحسب الوضع المذكور. وغايته: الاحتراز عن الخطأ في تطبيق التراكيب العربية على المعاني الوضعية الأصلية. ومباديه: المقدمات الحاصلة من تتبع الألفاظ المركبة في موارد الاستعمالات. وموضوعه: المركبات والمفردات من حيث وقوعها في التراكيب والأدوات (2/ 560) لكونها روابط التراكيب، وإنما يبحث عنها في النحو على وجه المبدئية لأنها من مسائل اللغة حقيقة كذا في ((مدينة العلوم)). وقال في ((كشف الظنون)): وتعريفه وموضوعه مستغن عن التعريف فأنه مشهور، والكتب المؤلفة فيه كثيرة معروفة. قال في ((مدينة العلوم)): علم النحو من فروض الكفايات، إذ يحتاج إليه الاستدلال بالكتاب والسنة. وفي ((كشاف اصطلاحات الفنون)) علم النحو ويسمى: علم الإعراب أيضاً على ما في شرح اللب، وهو علم يعرف به كيفية التركيب العربي صحة وسقماً، وكيفية ما يتعلق بالألفاظ من حيث وقوعها فيه من حيث هو هو أولاً، وقوعها فيه كذا في الإرشاد. وموضوعه: اللفظ الموضوع مفرداً كان أو مركباً وهو الصواب كذا قيل. يعني موضوع النحو: اللفظ الموضوع باعتبار هيئته التركيبية وتأديتها لمعانيها الأصلية لا مطلقاً، فإنه موضوع العلوم العربية. وقيل: الكلمة والكلام. وقيل: هو المركب بإسناد أصلي. ومباديه: حدود ما تبتني عليه مسائله كحد المبتدأ والخبر مقدمات حججها أي أجزاء علل المسائل، كقولهم في حجة رفع الفاعل أنه أقوى الأركان والرفع أقوى الحركات ومسائله الأحكام المتعلقة بالموضوع كقولهم. الكلمة: إما معرب أو مبني، أو جزئه كقولهم آخر الكلمة محل الأعراب أو جزئية كقولهم: الاسم بالسببين يمتنع عن الصرف أو عرضه كقولهم الخبر. إما مفردا وجملة أو خاصته، كقولهم الإضافة تزاحم التنوين ولو بواسطة أو وسائط، أي ولو كان تعلق الأحكام بأحد هذه الأمور ثابتا بواسطة أو وسائط، كقولهم الأمر يجاب بالفاء، فالأمر جزئي من الإنشاء والإنشاء جزئي من الكلام (2/ 561). والغرض منه: الاحتراز عن الخطأ في التأليف والاقتدار على فهمه والإفهام به هكذا في الإرشاد وحواشيه وغيرها انتهى حاصله. قال ابن خلدون رحمه الله: اعلم أن اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده وتلك العبارة فعل الساني فلابد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها وهو اللسان، وهو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم. وكانت الحاصلة للعرب من ذلك أحسن الملكات وأوضحها إبانة عن المقاصد لدلالة غير الكلمات فيها على كثير من المعاني، مثل: الحركات التي تعين الفاعل من المفعول ومن المجرور أعني المضاف، ومثل: الحروف التي تفضي بالأفعال إلى الذوات من غير تكلف ألفاظ أخرى وليس يوجد ذلك إلا في لغة العرب، وأما غيرها من اللغات فكل معنى أو حال لا بد له من ألفاظ تخصه بالدلالة. ولذلك نجد كلام العجم في مخاطباتهم أطول مما نقدره بكلام العرب، وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا). فصار للحروف في لغتهم والحركات والهيئات أي: الأوضاع اعتبار في الدلالة على المقصود غير متكلفين فيه لصناعة يستفيدون ذلك منها، إنما ملكة في ألسنتهم يأخذها الآخر عن الأول، كما تأخذ صبياننا لهذا العهد لغاتنا. فلما جاء الإسلام، وفارقوا الحجاز لطلب الملك الذي كان في أيدي الأمم والدول وخالطوا العجم، تغيرت تلك الملكة بما ألقي إليه السمع من المخالفات التي للمتعربين والسمع أبو الملكات اللسانية، ففسدت بما ألقي إليها مما يغايرها لجنوحها إليه باعتياد السمع، وخشي أهل العلوم منهم أن تفسد تلك الملكة رأسا، ويطول العهد بها فينغلق القرآن والحديث على الفهوم، فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطردة شبه الكليات والقواعد يقيسون عليها سائر أنواع الكلام، ويلحقون الأشباه بالأشباه، مثل: أن الفاعل مرفوع، المفعول منصوب، والمبتدأ مرفوع، ثم رأوا تغير الدلالة بتغيير حركات هذه الكلمات، فاصطلحوا على تسميته (2/ 562) إعرابا، وتسمية الموجب لذلك التغير عاملا، وأمثال ذلك، وصارت كلها اصطلاحات خاصة بهم، فقيدوها بالكتاب، وجعلوها صناعة لهم مخصوصة، واصطلحوا على تسميتها بعلم النحو. وأول من كتب فيها: أبو الأسود الدؤلي من بني كنانة، ويقال: بإشارة علي رضي الله عنه، لأنه رأى تغير الملكة فأشار عليه بحفظها، ففرغ إلى ضبطها بالقوانين الحاضرة المستقرأة. ثم كتب فيها الناس من بعده إلى أن انتهت إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي أيام الرشيد أحوج ما كان الناس إليها لذهاب تلك الملكة من العرب، فهذب الصناعة وكمل أبوابها. وأخذها عنه سيبويه، فكمل تفاريعها واستكثر من أدلتها وشواهدها ووضع فيها كتابه المشهور الذي صار إماما لكل ما كتب فيها من بعده. ثم وضع أبو علي الفارسي، وأبو القاسم الزجاج، كتبا مختصرة للمتعلمين يحذون فيها حذو الإمام في كتابه. ثم طال الكلام في هذه الصناعة، وحدث الخلاف بين أهلها في الكوفة والبصرة المصرين القديمين للعرب، وكثرت الأدلة والحجاج بينهم، وتباينت الطرق في التعليم، وكثر الاختلاف في أعراب كثير من أي القرآن باختلافهم في تلك القواعد وطال ذلك على المتعلمين. وجاء المتأخرون بمذاهبهم في الاختصار فاختصروا كثيرا من ذلك الطول مع استيعابهم لجميع ما نقل. كما فعله ابن مالك في كتاب ((التسهيل)) وأمثاله. أو اقتصارهم على المبادئ للمتعلمين، كما فعله الزمخشري في ((المفصل))، وابن الحاجب في المقدمة له، وربما نظموا ذلك نظما مثل ابن مالك في الأرجوزتين الكبرى والصغرى، وابن معطي في الأرجوزة الألفية. وبالجملة فالتأليف في هذا الفن أكثر من أن تحصى أو تحاط بها، وطرق (2/ 563) التعليم فيها مختلفة فطريقة المتقدمين غايرة لطريقة المتأخرين، والكوفيون، والبصريون، والبغداديون، والأندلسيون، مختلفة طرقهم كذلك. وقد كادت هذه الصناعة أن تؤذن بالذهاب لما رأينا من النقص في سائر العلوم والصنائع بتناقص العمران. ووصل إلينا بالمغرب لهذه العصور ديوان من مصر منسوب إلى جمال الدين بن هشام من علمائها، استوفى فيه أحكام الأعراب مجملة ومفصلة، وتكلم على الحروف والمفردات والجمل، وحذف ما في الصناعة من المتكرر في أكثر أبوابها، وسماه ((بالمغني)) في الإعراب، وأشار إلى نكت إعراب القرآن كلها، وضبطها بأبواب ومفصول وقواعد انتظمت سائرها فوقفنا منه على علم جم يشهد بعلو قدره في هذه الصناعة، ووفور بضاعته منها، وكأنه ينحو في طريقته منحاة أهل الموصل الذين اقتفوا أثر ابن جني، واتبعوا مصطلح تعليمه فأتى من ذلك بشيء عجيب دال على قوة ملكته، واطلاعه والله، يزيد في الخلق ما يشاء انتهى. قال في ((مدينة العلوم)): ومن الكتب المشهورة في علم النحو مقدمة لابن الحاجب المسماة ((بالكافية)) والناس قد اعتنوا بالكافية أشد الاعتناء بحيث لا يمكن إحصاء شروحها، وأجلها الذي سار ذكره في الأمصار والأقطار مسير الصبا والأمطار، شرح العرمة نجم الأئمة رضي الدين الإسترآبادي، وهو شرح عظيم الشأن جامع لكل بيان وبرهان، تضمن من المسائل أفضلها وأعلاها، ولم يغادر من الفوائد صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. قال السيوطي في ((طبقات النحاة)): لم يؤلف عليها ولا في غالب كتب النحو مثله جمعا وتحقيقا وحسن تعليل، وقد أكب الناس عليه وتداولوه واعتمده شيوخ العصر في مصنفاتهم ودروسهم، وله فيه أبحاث كثيرة مع النحاة واختيارات جمة، ومذاهب ينفرد بها وله شرح على الشافية انتهى. ويروى: أن رضي الدين كان على مذهب الرفض، يحكى أنه: كان يقول العدل في عمر ليس بتحقيقي، موضع قوله العدل في عمر تقديري نعوذ بالله من الغلو في (2/ 564) البدعة، والعصبية في الباطل. ومن شروح الكافية شرح السيد ركن الدين كبير ومتوسط صغير وهذا المتوسط متداول بين الناس على أيدي المبتدئين. وشرح الفاضل السامي الشيخ عبد الرحمن الجامي بلغ غاية لا يمكن الزيادة عليها في لطف التحرير، وحسن الترتيب، وشهرة حاله في بلادنا، أغنتنا عن التعرض لترجمته. وشرح جلال الدين الغجدواني أحمد بن علي، قال السيوطي هذا الشرح مشهور بأيدي الناس. وشرح النجم السعيدي. وشرح تقي الدين النيلي وشرح المصنف للمتن وفيه أبحاث حسنة. ومن المختصرات ((لب الألباب))، وعليه شروح، أحسنها شرح السيد عبد الله العجمي نقره كار، ومعناه: صانع الفضة. و((لب الإعراب)) لتاج الدين الإسفرائيني، وله شروح منها شرح قطب الدين الفالي، وشرح الإمام الزوزني محمد بن عثمان، وزوزن بلدين هراة ونيسابور. وشرح الشيخ علي الشهير بمصنفك، كان من أولاد الإمام فخر الدين الرازي، والرازي يصرح في مصنفاته بأنه من أولاد عمر بن الخطاب، وذكر أهل التاريخ أنه من أولاد أبي بكر الصديق. ومن المختصرات أيضاً: المصباح للإمام المطرزي، وشرحه ضوء المصباح للإسفرايئني. و((العمدة)) لابن مالك وعليه شروح منها: شرح ابن جابر الأندلسي. وألفية جلال الدين السيوطي، ومن المنظومات ((ملحة الإعراب)) لأبي القاسم الحريري. وأرجوزة الشيخ ابن الحاجب نظم الكافية على أحسن وجه خاليا عن (2/ 565) تكلف النظم. ومن المبسوطات: شروح المفصل منها: ((الإيضاح)) لابن الحاجب، وشرح ابن يعيش، و((الإقليد)) للجندي، وكتاب ((مغنى اللبيب عن كتب الأعازيب)) لابن هشام، وله مختصر سماه ((قواعد الإعراب)) وعليهما شروح نافعة. قال ابن خلدون: ما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية يقال له: ابن هشام أنحى من سيبويه، وكان كثير المخالفة لأبي حيان، شديد الانحراف عنه، اشتهر في حياته وأقبل الناس عليه، قال السيوطي: وقد كتبت عليه حاشية وشرحا لشواهده، انتهى حاصل ما في ((مدينة العلوم))، وقد أطال في بيان تراجم النحاة المذكورين. هو: علم باحث عن كيفية الاستدلال بأحوال الرياح، والسحاب، والبرق، على نزول المطر، وأخص الناس بهذا العلم العرب لاشتداد حاجتهم إلى الغيوث التي بها حصول معايشهم من السقي والرعي، وقد حصل لهم هذا العلم بكثرة التجارب، ودليله الدوران بين أحوال السحب والأمطار. وجاء في غريب أبي عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عن سحابة مرت وقال: (كيف ترون قواعدها وبواسقها أجون أم غير ذلك؟ ثم سأل عن البرق: أخفوا أم وميضا، أم يشق شقا؟ فقالوا: بل يشق شقا، فقال صلى الله عليه وسلم جاءكم الحياء). هكذا في ((مدينة العلوم)). هو: علم يبحث فيه عن كيفية إيراد الكلام بين المناظرين. وموضوعه: الأدلة من حيث إنها يثبت بها المدعي على الغير (2/ 566). ومباديه: أمور بينة بنفسها. والغرض منه: تحصيل ملكة طرق المناظرة لئلا يقع الخبط في البحث فيصبح الصواب خطأ. ومن الكتب المختصرة فيه: ((غاية الاختصار)) رسالة لمولانا عضد الدين، وقد بين قواعدها كلها في مقدار عشرة أسطر، وشرحها بعض الفضلاء المعاصرين لنا شرحا حسنا، وهو مولانا محمد بن محمد البردعي وكان ذكيا في الغاية مات سنة 927، ورسالة شمس الدين السمرقندي صاحب قسطاس الميزان، وهذه الرسالة أشهر كتب هذا الفن، وعليها شروح وكتاب مولانا سنان الدين الكنجي، وكنجة: قرية من قرى بردع، ولم يتفق له شرح إلى الآن قاله في ((مدينة العلوم)) وفيه في موضع آخر. وهو: القواعد المنطقية من حيث إجرائها في الأدلة السمعية، فصورة تلك القواعد وإن كانت جارية على منهاج العقل لكن موادها مستنبطة من الشرع، ولهذا الاعتبار جعل ابن الحاجب القواعد المنطقية من مبادئ أصول الفقه. أي: معرفة النفوس الإنسانية بدأ وعوداً، وأنها قديمة، أو حادثة، أو محشورة، وموضوعاً وغرضه لا يخفى على الفطن (2/ 567).
|